ربما هذه الرحلة" دليل الوصول الى زيارة الرسول" من أوائل الرحلات " الشعائرية" التي انطلقت على متن القطار الحجازي من بلاد الشام الى المدينة المنورة وهي تتزامن مع تفعيل كافة محطات سكة الحديد الحجازية ،حيث كُلف فيها المعلم المصري محمد حسن غالي - ناظر مدرسة محلة المرحوم[1]- لكي يكتب دليلاً إرشاديًّا شاملاً يستفاد منه ويوّزع للزائرين والقاصدين الأماكن المقدسة مع تغيّر مسارات الطرق التقليدية القديمة بما يخص الزائرين القادمين من مصر وبلاد الشام وما أحدثته وسائل النقل و المواصلات الحديثة آنذاك مع تدشين مشروع سكة الحديد الحجازية .
انطلقت من مصر في شهر رجب 1330هـ - على متن باخرة خديوية إلى سواحل فلسطين، حيث زار المعلم غالي المدن الساحلية الفلسطينية وكتب وصفا جميلا لها وتحدث عن أسواقها وفنادقها ومزارعها وطرقاتها ووصفها وصفا دقيق بأسلوب أدبي لطيف وحينما يسهب المعلم بالوصف يضع في مخيلة القارئ وكأنه أمام شاعرٍ يلقي قصيدة جميلة لا تستمل حتى إذا اضطر لإعادة قراءتها، دون مبالغة أو تضخيم وقلما ما نجده متمللاً من تصوير المشاهد وتوثيق الأحداث، كان المعلم دقيقاً في سرد التفاصيل التي ربما كانت تفيد الزائرين وقاصدي الأماكن المقدسة في تلك الفترة ،وأيضاً كان يركز على التعاملات الإنسانية مع سكان المدن ومجاوري الأماكن المقدسة التي يزورها القاصدين والزوار، وإضافة إلى ذلك كيفية التعاملات المالية مع وسائل النقل المدنيّة وكيفية التعامل ملاك الفنادق والغرف التي غالبا ما تُستأجر للزائرين في المناسبات الشعائرية سواءً في المدينة المنورة أو القدس الشريف.
وكذلك تحدث كثيراً عن أهمية العملات النقدية المستخدمة والسلع التجارية في بلاد الشام والحجاز، لم يغفل المعلم غالي عن أي تفاصيل طوال مسار الرحلة التي امتدت من مصر الى فلسطين ووصولاً الى سوريا والأردن والسعودية حيث صوّر الملعم الحالة الاجتماعية والاقتصادية في المدينة المنورة والقدس تصويراً بديعاً. ، يقول : "من عادات أهل المدينة لهم شغف كثير بتحفيظ أولادهم القرآن الكريم ولكن لا على الطريقة المصرية التي اختص بها المصريون بين الامم الاسلامية (وهي حفظه عن ظهر قلب مع حسن تلاوته ) بل يقتصرون على مجرد معرفة قراءة المصحف جيداً أفهم يتفانون في ذلك ومتى أتم الطفل حفظه أعد أهله ومحبوهم له احتفالاً باهراً بالغاً حد الوصف فيحلونه ، بملابس الحرير الفاخرة وغيرها ثم يطوفون به في الشوارع منشدين أمامه القصائد فرحين بما آتاهم الله من فضله"
وكذلك : "منها أنه متى وصل الطفل لهم أربعين يوماً نظفوه وألبسوه ملابس الحرير الأبيض ثم يذهبون به لابسين ملابس الزينة الى الحجرة الشريفة حيث يدعونه فيها زمناً مغطى بستارها يدعى له بالخير ويرد الى أمه التي تذهب به الى بيتها فرحة بأبنها"
***
تأتي أهمية الرحلة كونها من أوائل الرحلات " الميسرة" على متن وسائل النقل الحديثة (القطار) التي لم لايعاني منها المعلم من مشقة أوقلق أو خوف أو متاهات الصحراء القاسية كما عانى منها بعض الرحالة والمستشرقين ،حيث ورد فيها الكثير من المعلومات التي لم يتطرق لها أي من الرحالة والمستشرقين في تلك الفترة كمثال: أسماء الموانئ والصناعات ومواعيد تحرك القاطرات والأجور وتسعيرة الدرجات واسماء المحطات ومواعيدها والحاجات التي يحتاجها المسافر من نفقات مالية ضرورية، بالاضافة الى وصف الحالة الاجتماعية والاقتصادية في يافا وحيفا ودرعا وتبوك ومدائن صالح وأهم موارد المياه على طريق الحج الشامي وأهمية محطات الاستراحة للزائرين وتحدث أيضاً عن محطة المدينة المنورة وضواحيها وعن تجارتها وصناعتها وعادات اهاليها و أسوارها الشامخة التي تحيط بها من كل الجهات واضافة الى ذلك عن مصدر مياهها العذبة وعن الحرم المدني وأبواب الحرم والحجرة النبوية الشريفة وكسوة الحجرة والروضتين الشريفتين وخدم الحرم المدني واضاءته وفرشه وآداب الزيارة .
لم يغفل عن جميع هذه التفاصيل وكذلك زيارته الأخرى للمسجد الأقصى حيث ذكر مسجد الصخرة والصخرة الشريفة ومصطبة الصخرة وحوش الحرم الأقصى ووصف مدينة بيت القدس وصفا بديعاً وكل هذه التفاصيل التي ذكرها حتماً ستعطي الباحثين الصورة المكتملة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في فترة ما قبل نشوب الحرب العالمية الأولى
عن المعلم :
لا توجد معلومات وافية عن الشخصية بحسب ما ورد في الكتاب ،هو : محمد حسن غالي - ناظر مدرسة محلة المرحوم 1330هـ 1912م ومن أوائل المعلمين المصريين الحاصلين على دبلوم مدرسة دار العلوم.
عن الكتاب :
انتهى المؤلف من طباعة الكتاب في شهر ربيع الثاني عام 1332ه الموافق 1914م من 90 ص ، بحسب ما ورد في الكتاب " لقد انتهى طبع هذا الكتاب الجليل في شهر ربيع الثاني سنة 1332هـ الموافق شهر مارس سنة 1914م وزان طبعه أن ظهر في عصر ولي نعمتنا أفندينا المعظم "عباس باشا حلمي " الثاني الأفخم " أيد الله ملكه وأعلى كلمته وأعز أمته".وورد أسماء ملتزمي الطبعة الأولى :أحمد أفندي صبحي الهرميل من أعيان محلة مرحوم غربية والشيخ حسن محمد غالي "ناظر مدرسة محلة مرحوم " والشيخ عبدالقادر محمد الحفناوي المدرس محلة مرحوم ، والشيخ سيد أحمد زريق -المدرس بالمدرسة المذكورة . وقد تفضل حضرة أحمد أفندي صبحي الهرميل فوجه عنايته الى طبع هذا الكتاب ونشره بين العالم الإسلامي" [2]
نود التنويه فقط بحذف المحلق الثاني "مناسك الحج على المذاهب الأربعة " من صفحة 76 إلى صفحة 93 وهي بطبيعة الحال إرشادات وتعاليم مناسك الحج والعمرة والأدعية الماثورة مابين السنة والواجب ،والفرق بين الركن والشرط والواجب والسنة والمندوب بالاضافة الى محرمات الاحرام وغيرها لأنها ربما تختلف أو غير كافية وتحتاج الى مسائل شرعية نجهلها فنكتفي بالرحلة.
منهجية إعداد الكتاب:
من النادر أن أهتم بالكتب القديمة ولكن وجدت أن هذا الكتاب يستحق لندورته ،ربما طُبع منه نسخ محدودة في تلك الفترة ، على الرغم أن الكتاب يحمل في طياته الكثير من المعلومات المهمة والقيمة التي لم يسبق ذكرها سواءً من قبل الرحالة أو المستشرقين لذا اهتميت في إعداده وتقديمه والتعليق عليه ، وأود هنا أيضاً أن اشير بمنهجية الإعداد حيث تم العمل على الكتاب كما هو ولم يتم أي إضافة باستثناء تشكيل السور القرآنية وابرازها ، وكذلك التعليق من خلال الهوامش واضافة مجموعة صور فوتوغرافية مواكبة لهذه الحقبة الزمنية أو مايقاربها.
وأخيراً لايسعني إلا أن أشكر الأستاذ محمد السيف رئيس تحرير المجلة العربية والأساتذة القائمين عليها على اهتمامه بهذه الرحلة وطباعتها. أسأل الله التوفيق والسداد للجميع
أسامة بن سليمان الفليّح
المملكة العربية السعودية
الرياض