مقدمة الكتاب :
عَبرَ المجد اليماني من هُنا، من عدن، من فوق رمال شواطئها الذهبية، ومن على سفوح وقمم جبالها الشامخة، ومن بين حبات العرق الطاهرة التي تتصبب بغزارة من جباه أبنائها المجتهدين المثابرين الذين وشموا في جبن التاريخ سجلاً حافلاً بالمآثر والمنجزات التي لا تغيب عن حاذق فطن.
عدن كأي مدينةٍ ساحلية وجدت بأي ركن في هذا العالم، تتلاقى فيها الأقوام، وتختلط فيها الأعراق، وتقام فيها طقوس الديانات، ويتمذهب فيها الناس كلٍ عى دينه ومذهبه وهواه، وهم خليط إنساني حَضرَ إليها من كل بقاع الأرض.
هذا الالتقاء والتلاقي الإنساني البديع والعجيب هو مادة ثرية لإبداع أبنائها وتنافس مُبدعيها، وحاضنة لتجربة فريدةٍ بين سكانها، الذين استطاعوا أن يُسجلوا منذ فجر التاريخ إنجازاتٍ مهمةً لا تزال شواهدها ظاهرة للعيان، وأورثوها للأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل في تراكم معرفي وتراثي في رحلة عدن مع الحياة.
أبناء عدن أثروا الحياة العلمية والفقهية في مجالاتٍ عدة، وخلَّفوا تراثاً غزيراً في الأدب عموماً، والشعر والغناء والفولكلور على وجه الخصوص، وبنوا نهضةً علميةً أكاديمية عى مستوى الوطن اليمني كله يُشار إليها بالبنان، صدوا الغُزاة الأجانب كالأحباش والبرتغاليين، وقاوموا المحتلين الأتراك والبريطانيين، وبذلك سطروا ملاحم عظيمة في مقاومة الغُزاة الطامعين بالأرض والعِرض.
وشيد السلف من الأجداد القاع والحصون والجسور والصهاريج والقنوات المائية والقصور والمساجد والجوامع والكنائس والمعابد لمعظم ديانات بني البشر، وكل ذلك تعبير عن مدى عمق فكرة التعايش والتسامح بين جميع السكّان في حاضرة المدينة على مدى قرون من عُمْرِ عدن.
كتبتُ مراثي ومقالاتٍ عن عدد من رموز وشخصيات المدينة منذ أعوام خلت، في رحلة توازت فيها السنين وتأدية المهام المناطة بنا بالجامعة والمدينة والدولة، لكنني كتبت أيضاً مقالاتٍ وموضوعاتٍ تحليلية في زمن العدوان الذي تعرض له شعبنا اليمني مِن قِبَل مَن يُفترض بهم أن يكونوا (أشقاءه من العرب)، مِن قِبل تحالف (أعرابي) تقوده المملكة العربية السعودية ودول خليجية مُتخمة بمال البترو-دولار، وأشقاء عرب آخرون تم إغواؤهم بالمال المدنس.
تخيلوا معي كيف ستكون الكتابة بحروفٍ ثائرةٍ في زمن حربٍ ضروس شنها (الأشقاء) علينا دون رحمةٍ ولا وازعٍ من ضمير ولا أخلاق ، ومتجردةٍ من قِيم ودلالات وتعاليم ديننا الإسامي الحنيف. كيف لا ؟!!! والعدوان على اليمن عمل على حصارها بحراً وجواً وبراً ، ولم يترك جسراً في الطريق العام والفرعي إلا ودمره، ولم يترك مصنعاً عاماً أو خاصاً ولا جوامع ولا مدارس ولا جامعة ولا متحفاً إلاَّ وهدمها، حتى تجمعات المواطنين الآمنبن للأعراس والمآتم والأسواق الشعبية ومساكن العمال إلاَّ ومزقها بصواريخه الفتاكة! إنها جريمة العصر أن تُرتكب بحق شعبٍ جار ومسالم وغير مُعتدٍ، إنها حرب فئةٍ ضالةٍ وظالمةٍ وباغية جُبلت على الكبرياء والغطرسة والعدوان بسبب مالها، وتصحُّر أخلاقها، وانعدام إنسانيتها، إنها جرائم بشعة تلطخت بها أيادي القتلة بالدماء الطاهرة لشعبنا اليمني العظيم من الأطفال والنساء والشيوخ وهي جرائم وحشية لن تُنسى، لا و لن تسقط بالتقادم.
نعود من جديدٍ إلى عدن التي لا يستطيع أي فردٍ مها بلغت إمكاناته أن يحصرها في عدد من العناوين، ولا في عدد من المجلدات! عدن أكبر من كل الكتابات والآثار وحتى التراث ، لأنها حاملة للأرواح التي لم تمت ولم تغادرنا وهي محفوظة في أرفف وأرشيف سفوح جبل شمسان الأشم كذاكرةٍ للإنسان الذي عاش في كل الأزمان مُنذ أن ولد وعاش أبونا آدم عليه السلام إلى أن يبُعث من جديدٍ في قادم الأيام.
نترك القارئ اللبيب كي يتجول ويستقرئ الأحداث عن قرب بين أبواب وفصول وأقسام كتاب (عدن ... قطوف من الوفاء للمكان والإنسان)، نتركه يتأمل في ما كُتب عن وجاهات وشخصيات عدن، وعن الأحداث التي عاشتها المدينة الجميلة التي عبث بها البعض من أبنائها، يستنطق التاريخ عن علمائها الأفاضل، ويستخرج العبر والدروس عن مُبدعيها في حقول التجارة والدين والفن والعلم والرياضة، وهم من استطعنا الوصول إليهم بالحديث عنهم والبحث في مناقبهم العظيمة.
أتمنى أن يجد القارئ شيئاً مفيداً بين دفتي هذا الكتاب، والله أعلم منا جميعاً.
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾
أ.د . عبد العزيز صالح بن حبتور (2021م)