يحاول هذا الكتاب جمع صوراً للحكمِ الرشيدِ في صدرِ الدولةِ الإسلامية، وتحليلها تحليلاً علمياً عصرياً، يقارن الحاضر بالماضي، ويجعل انطلاقتنا نحو التقدم الحضاري قائمةٌ على فقهٍ بصيرٍ بتاريخنا؛ لأنه لا يبدأ من الفراغ، ولا يستطيع أن يتعامل مع التجارب الحضارية المعاصرة دون أن يقف على أرض صلبة؛ تستوعب تراثه، وتستلهم رصيده، وتدور في فلك ثوابته ونظرته للكون والحياة والإنسان.
إنَّ بناء الحكم الرشيد يتطلب الالتفات إلى القيم الأصيلة ورصيد الخبرة من جهة، والمفاهيم الحديثة والتجارب المعاصرة من جهة أخرى.
ولعل هذا الكتاب أن يسهم في إثراء علوم الإدارة العامة بمفهوم الحكم الرشيد ومضامينه في الفكر الإسلامي، بعيداً عن وجهة نظر المُغالين فيه، والمتخلين عنه، وينمي الحافز الذاتي (الدافع الديني والأخلاقي) للمعنيين في القطاع العام لتطبيق الحكم الرشيد احتساباً للأجر والثواب.
كما يهدف إلى تسليط الضوء على أصول الحكم الرشيد في صدر الدولة الإسلامية، والمفاهيم المعاصرة للحكم الرشيد، وتوضيح أوجه التشابه والاختلاف بينهما، وتوضيح دور الحضارة الإسلامية في تطوير العلوم الإدارية ورفع روح الاعتزاز بها.
وقد اتبع هذا الكتاب اسلوب المنهج التاريخي، لجمع الجانب الفكري والعملي لمبادئ الحكم الرشيد ومكوناته في فترة صدر الإسلام، والمنهج المقارن لمقارنة الحكم الرشيد في صدر الدولة الإسلامية والاتجاهات المعاصرة، والمنهج الوصفي لتحليل المضمون.
ويتضح من خلال صفحات هذا الكتاب أن مكونات الحكم الرشيد تتأثر بنظام الحكم في الدولة، من حيث الأهمية والزيادة أو النقصان عن مكوناته الافتراضية: الحكومة، ومنظمات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، كما أن مفاهيم الحكم الرشيد تتطور وتتغير بتغير الظروف والمجتمعات، والجهات الراسمة لها، بما يواكب اهتمامها ومدخلها الذي تتبعه، وتدور مجمل مبادئ الحكم الرشيد في موضوع الشرعية، الاتجاه، الأداء، المساءلة، الإنصاف.
إن مبادئ الحكم الرشيد ومكوناته، والمفاهيم الإدارية المتصلة بإدارة الحكم، لها أصل في الفكر الإسلامي والممارسة العملية في صدر الدولة الإسلامية، بل وتفوقت الممارسة العملية على كثير من المفاهيم الحديثة من حيث الدقة والشمول، وللفكر الإسلامي القدرة على استيعاب الأفكار والوظائف الإدارية الحديثة وصقلها بالمفهوم الإسلامي، وإخراجها في صورة عملية، كما أن الشريعة الإسلامية لا تقيد التحديث والتطوير الإداري المفضي لمصلحة الأمة؛ لذلك فإن باب الاجتهاد واسع أمام المسائل الحياتية المتغيرة بتغير الزمان والمكان، بخلاف ضيق مساحة الاجتهاد في المسائل الثابتة المفصلة في الشريعة الإسلامية غاية التفصيل.
لقد تطورت أكثر الآليات الإدارية حين تمت ممارستها، وينظر إلى النظام الديموقراطي أنه نسخة مُطَوَّرة لنظام الشورى، مع احتفاظ الشورى بسيادة الشريعة الإسلامية. وفي صدر الدولة الإسلامية ظهرت الشورى بصور متعددة، وبمشاركة واسعة، وتعد دولة الخلافة الراشدة دولة مدنية ذات رسالة، تحكمها الشريعة الإسلامية.
لقد اهتمت الدولة في صدر الإسلام بكفاءة التعيين وفاعليته، واعتمدت الكفاءة والفاعلية المؤسسية، والعمل على ضوء رؤى استراتيجية، وذلك ما تنادي به الاتجاهات المعاصرة للحكم الرشيد.